الأحد، 1 مايو 2011

ابراهيم واسماعيل عليهم السلام ,Abraham and Ishmael peace be upon them

 قصه سيدنا ابراهيم واسماعيل وزريتهم
 
 
            
قصة إبراهيم خليل الرحمن
يروى أن ابراهيم عليه السلام ولد ببابل و تزوج سارة و كانت عاقراً لا تلد ثم ارتحل هو و وزجته سارة و ابن أخيه لوط قاصدين أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فأقاموا بحران وكانوا يعبدون الكواكب السبعة.
والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين، يستقبلون القطب الشمالي، ويعبدون الكواكب ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل بكوكب منها، ويعملون لها أعياداً وقرابين.
وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام، وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفاراً، سوى إبراهيم الخليل، وامرأته، وابن أخيه لوط عليهم السلام، وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور، وأبطل به ذاك الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى أتاه رشده في صغره، وابتعثه رسولاً، واتخذه خليلاً في كبره قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي كان أهلاً لذلك.

وكان أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له، كما قال تعالى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً }.
     
   
لما وقفنا طويلا أمام قصة إبراهيم ودعوته، ولكن علينا أن نبدأ حيث حمل إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر وابنها إسماعيل إلى حيث تقوم مكة الآن، وكيف أنشئت الكعبة لأول مرة باعتبار ذلك نقطة البدء لقيام العرب العدنانية وظهور أجداد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
ولكن كتابنا هذا يعنى بالرسالة المحمدية، عنايته بالسيرة المحمدية، ومن هنا كانت سيرة سيدنا إبراهيم ورسالته وتعاليمه كما يسجلها القرآن الكريم، هى جزء لا يتجزأ من الدعوة الإسلامية، إذ هى الإسلام فى طبيعته وجوهره، والقرآن يصف سيدنا إبراهيم بأنه أول المسلمين، ويصف دين سيدنا إبراهيم بأنه دين الفطرة والحنيفية، وتلك هى ذات صفات الإسلام، 
{فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 95).
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67).
{قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (الأنعام: 161-163).
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 130-133).
فليس ثمة إلا دين واحد هو الذى دعا إليه إبراهيم ووصى به أبناءه من بعده، وهو الذى يدعو إليه الإسلام، وقد أسماه القرآن الكريم حينا بالحنيفية وحينا آخر بدين الفطرة، وهو فى كل الأحوال دين الإسلام.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30).
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (النساء: 125).
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (النحل: 123).
 
جاء فى المصباح المنير: الحنيف: المسلم لأنه مائل إلى الدين المستقيم.                                
وجاء فى القاموس: الحنيف: الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه وكل من حج أو كان على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم فهو حنيف.
وتحنف أى عمل الحنيفية أو إختتن واعتزل عبادة الأصنام.
وجاء فى لسان العرب: أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة على ما جاء فى الحديث.
وجاء فى الحديث أيضا: خلقت عبادى حنفاء أى طاهرى الأعضاء من المعاصى.
وكان العرب يسمون فى الجاهلية من هو على دين إبراهيم بأنه حنيف، وكانوا يلخصون دين إبراهيم فى اعتزال عبادة الأصنام، وحج بيت الله الحرام، والإختتان.
 
إبراهيم عليه السلام كما تصوره التوراة:

وقد سبقت التوراة القرآن الكريم فى الحديث عن إبراهيم عليه السلام، ولكن شتان ما بين الحديثين، فحيث يصوره القرآن، داعيا إلى التوحيد ومحاربا للأصنام، متبعا للطريق المستقيم، فإن التوراة تصوره فى صورة مزرية غير كريمة لا تليق بالرجل المستقيم فضلا عن النبى والرسول والداعية إلى سبيل الله. وهذا ما يجعلنا نؤثر أن لا نسمى هذا الكتاب الموجود بين يدى اليهود بالتوراة. ونفضل تسمية المسيحيين له من أنه العهد القديم، إذ لا يمكن أن تكون التوراة وهى كتاب مقدس تحوى هذا الدنس والتخرصات على الأنبياء والمرسلين. فإبراهيم عليه السلام لا يزيد فى هذا الكتاب عن رئيس قبيلة بدوى بكل أخلاق وصفات البدو ممن وصفناهم فيما سبق فهو مخاتل وهو مخادع، ونشاطه كله متجه إلى تكثير مواشيه وحيواناته، وهو يبذل فى سبيل الحصول على أعراض الدنيا، ما يبذله كل من لا يخاف الله وليس له ضمير، فهو إذا أقدم على بلد من البلاد أعلن أن زوجته هى أخته حتى لا يقتله من يفكر فى اغتصابها، وهو يعتاد على الإجراء فيكرره، قام به فى مصر، ثم قام به فى بلاد ابيمالك، وإليك ما جاء فى كتاب العهد القديم خاصًا بإبراهيم عليه السلام.
صور القرآن المشرقة لإبراهيم والأنبياء:
إلى جوار هذه الصور المهزوزة القاتمة المشوهة لإبراهيم عليه السلام، والتى يمتد تشويهها إلى الله سبحانه وتعالى، إذا يكون إبراهيم هو الذى يختصه بنعمة وآلائه مع ترديه فى الخطيئة أكثر من مرة، ويعده لغير سبب مفهوم أن يملك أبناءه الأرض ويكثرهم حتى يصبحوا مثل تراب الأرض، نقول إلى جوار هذه الصورة غير الكريمة تقوم صورة سيدنا إبراهيم فى القرآن مشرقة طاهرة، فهو الصادق الأمين المتوجه إلى الله بفطرته منذ كان صبيا صغيرا، وهو العازف عن عبادة الأصنام المحارب لها، وهو الداعى إلى الله الواحد الأحد الذى لا رب سواه وهو عنوان الاستقامة، وآية الطهارة والنزاهة فى كل ما يقول أو يفعل، وإليك عناصر حياة سيدنا إبراهيم وكفاحه وجهاده فى محاربة الأصنام، حتى كاد أن يكون طعمة للنار لولا أن أنجاه الله منها.
بحث إبراهيم عن الله الحق:
{وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّى بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام75
ويحارب الأصنام:
ولا يقف إبراهيم عند حد الاهتداء إلى العقيدة السليمة عقيدة التوحيد والتنزيه، بل يحارب الوثنية حربا ايجابية فيحطم الأصنام، ويتخذ من تحطيمها سبيلا للسخرية من عقائد القوم ليحثهم على معرفة الله الحق.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ
وتتكرر قصة إبراهيم عليه السلام، وتحديه لقومه وعبادة الأصنام وتحطيمه للأصنام، ومحاكمة القوم إياه، فى بلاغة القرآن المعجزة وهو يصور الإيمان العميق من خلال الحوار المشرق بين إبراهيم وبين قومه من مثل ما جاء فى سورة الشعراء:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: 69-89).
إبراهيم يحاج الطغاة:

ويقف إبراهيم للملوك والطغاة الجبارين بالمرصاد يحذرهم وينذرهم ويدعوهم إلى الله الواحد الأحد، ويدحض حججهم.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّى الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(البقرة: 258).

ويهاجر فى سبيل الله:

وكان جحود قومه للدين الحق وإصرارهم على عبادة الأوثان ورغبة إبراهيم عليه السلام فى نشر دين التوحيد، هو الذى حدا به إلى مغادرة وطنه ومسقط رأسه والهجرة فى سبيل الله ليدعو إلى الحق والخير، وليس لجمع الأموال والأبقار والذهب والفضة كما يصوره كتاب العهد القديم:

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
لا تأثر بما كان فى يد اليهود:
ويكون السؤال الذى يفرض نفسه بعد تسجيل هذه الحقيقة، من أين جاء سيدنا محمد بهذا التصوير السامى لسيدنا إبراهيم وبقية الأنبياء والرسل؟ ومن أين جاء بهذه الفكرة المشرقة من وحدة الدين والعبادة؟ أنه لا يمكن أن يكون قد استقاها من كتاب العهد القديم أو الجديد أو ما يقوله أصحاب الديانات الأخرى، فقد رأينا ما الذى يوجد فى كتبهم وكيف يصورون أنبيائهم، ولا يمكن أن يكون من بنات أفكاره، فما كان لعربى بدوى يعيش فى جزيرة العرب التى صورنا بيئتها، أن يخالف ما هو منصوص عليه فى كتب الآخرين، وأن يصحح ويصوب، وما كان له وهو الذى لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتلق قليلا أو كثيرًا من العلم،أن يطلع البشرية بهذه النظرية التى لم يسبقه إليها سابق ولم يلحقه بها لاحق، وهو وحدة العقيدة الإلهية منذ كان الإنسان إنسانا. وعلى هذا فلم يبق إلا التسليم بأن هذا القرآن هو وحى من عند الله عز وجل. وقد جلى القرآن الكريم هذه الحجة التى تفرض نفسها على العقل فرضا فقال وقوله الحق:
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران: 44).
{مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا}هود: 49).
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}(يوسف: 102).
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (القصص: 44).
وهكذا يقرر القرآن الواقعة المادية الثانية أن سيدنا محمدًا لم يكن حاضرا هذه الوقائع التى يرويها القرآن، وهى ليست موجودة بهذا التصوير فى كتاب العهد القديم وهى مما يعسر على العقل التصور أن تكون من بنات أفكار عربى أمى لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتلق العلم، فلا مناص من التسليم أن ما جاء فى القرآن الكريم وهو وحى أوحى إلى سيدنا محمد.
تحريف التوراة:
ولقد نصر القرآن على أن هذا الكتاب الذى بين يدى اليهود لا يمثل التوراة الحقيقية إما عن طريق التحريف فى نصوصه وإما عن طريق إغفاله لبعض الفصول والحقائق:
{مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}(النساء: 46).
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ}(المائدة: 13).
كما أن فى القرآن الكريم الإشارة إلى أن أحبار اليهود، كانوا يفترون على الله الكذب. فيصوغون أسفارا وأقوالا وكتبا يدعون أنها منزلة من السماء وهى ليست كذلك.
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(البقرة: 79).
علماء اللاهوت المحدثون يؤكدون قول القرآن الكريم:
وقد أثبتت الأبحاث التاريخية العلمية اللاهوتية فى العصر الحديث هذا الذى قاله القرآن الكريم، فما أنزل على موسى من هذا الكتاب الموجود بين يدى اليهود لا يعدو أن يكون الأسفار الخمسة الأولى منه، أما فصوله التالية، فقد كتبت على مر القرون وهى تنسب أحيانا لمن كتبها، ولا يعرف كاتبها فى أكثر الأحايين.
وفى سفر تثنية الاستراع ما يؤكد بأن العهد القديم قد أعيدت كتابته فنرى ازدواج الوقائع والتعليمات والمبادىء.
ومن هنا فالقرآن هو الأساس وهو الأصل فى كل ما يتصل بحياة سيدنا إبراهيم وسيرته وأعماله ودعوته، وسيرة أبنائه من بعده.
سكنى إسماعيل بمكة وبناء الكعبة:
وتأسيسا على ذلك فالقرآن الكريم وهو وثيقا أن إبراهيم عليه السلام هو بانى الكعبة بمساعدة ابنه إسماعيل، وأن الكعبة قد بنيت لتكون لله يحج له المؤمنون بالله من أنحاء الأرض، إظهارا للعبودية والطاعة لأوامر الله، وأن تعظيم هذا البيت الحرام والحج إليه هو من شعائر دين إبراهيم وبالتالى دين الإسلام. وإليك نصوص القرآن المثبتة لذلك والدالة عليه:
{رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(إبراهيم: 37).
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِى عَنِ الْعَالَمِينَ}(آل عمران: 96-97).
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(البقرة: 125-131).
مناسك الحج:
وينص القرآن على مناسك الحج كما يؤديها المسلمون باعتبارها الشريعة التى تلقاها إبراهيم عليه السلام.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ} (الحج:26-30).
وهكذا تتضمن هذه الآيات إشارات إلى كل مناسك الحج من طواف حول البيت، ووقوف بعرفة وإقامة بمنى ونحر الأضاحى لله، مما سنفصله فقهيًا عند مكانة من السيرة إن شاء الله.
أما الآن فبحسبنا تأكيد هذا الذى قلناه، من أن إبراهيم عليه السلام، قد جاء بقواعد الإسلام الأساسية وأن الإسلام كما جاء به سيدنا محمد هو بعث واستمرار لهذه العقيدة الثابتة الخالدة.
وقد بقى أن نتساءل ما الذى جاء بإبراهيم عليه السلام إلى مكة المكرمة، وعهدنا به فى بلاد فلسطين أو أرض كنعان كما كانت تلقب فى هذا الزمان.
إن القرآن الكريم كما هو شأنه ومنهاجه لا يذكر الحوادث إلا مجدة تكاد تستقيل عن الزمان والمكان، وذلك لأنه كتاب وعظ وإرشاد وهداية وليس كتاب تاريخ، وعلينا أن نلتمس الوقائع التاريخية وتفصيلها من المصادر الأخرى وعلى رأسها الحديث النبوى الشريف. وعندما لا يكون ما ينطوى عليه كتاب العهد القديم غير متعارض مع القرآن أو الحديث فلا مانع من الاستئناس به واتخاذه مصدرًا تاريخيًا للوقائع التى نحتاج إلى استيعابها.
زواج إبراهيم بهاجر:
ولقد أشرنا من قبل إلى أن إبراهيم عليه السلام قد وفد إلى مصر مصطحبا سارة زوجته، وقد اقتنت سارة عند وجودها فى مصر جارية مصرية يقال لها هاجر، ولما كانت سارة قد أصبحت عجوزًا لا تلد فقد وهبت جاريتها لإبراهيم عليه السلام عله يرزق منها بولد، وإليك نص ما جاء فى العهد القديم:
وأما ساراى إمرأة إبرام فلم تلد له وكانت لها أمة مصرية اسمها هاجر • فقالت ساراى لإبرام هو ذا قد حبسنى الرب عن الولادة فادخل على أمتى لعل بيتى يبنى منها، فسمع إبرام لقول ساراى فأخذت ساراى إمرأة إبرام هاجر المصرية أمتها من بعد عشر سنين من مقام إبرام فى أرض كنعان فأعطتها لإبرام رجلها لتكون له زوجة • فدخل على هاجر فحملت فلما رأت أنها قد حملت هانت مولاتها فى عينيها • فقالت ساراى لإبرام ظلمن عليك. إنى دفعت أمتى إلى حجرك فلما رأت أنها قد حملت هنت فى عينيها يحكم الرب بينى وبينك: (الفصل السادس عشر).
وتمضى قصة العهد القديم فتذكر لنا كيف أن هاجر لم تلبث أن رزقت بإسماعيل عليه السلام، فزادت غيرة سارة من هاجر، ثم مَنّ الله على سارة بولد وهو إسحق عليه السلام، فلما أصبح لها ولد رأت أن لا محل لبقاء هاجر بعد ذلك فطلبت إلى إبراهيم عليه السلام أن ينفيها من الأرض فغضب إبراهيم لهذا الطلب، ولكن الله سبحانه وتعالى، طلب من إبراهيم أن ينتقل بهاجر وابنها إسماعيل حيث سيكون لإسماعيل شأن أى شأن.. فتوجه إبراهيم عليه السلام من فلسطين نحو الجنوب، متبعا طريق القوافل الذى كان يسلكه العرب من قديم الزمان من جنوب جزيرة العرب حتى شمالها، حتى وصل فى تجواله إلى موقع مدينة مكة والذى كان فيما يبدو محطة تستريح عندها القوافل، فرأى أن ذلك هو خير مكان يمكن أن يدع فيه هاجر وابنه إسماعيل.
حديث البخارى عن قصة إبراهيم وإسماعيل:
وكان هذا الذى أشرنا إليه فيما سبق من بناء الكعبة، كما نص عليه القرآن الكريم، ولكن هذا الذى أوجزه القرآن الكريم، يفصله حديث شريف رواه البخارى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم وهذا نصه:
"أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفى أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهى ترضعه، حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم فى أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم مضى إبراهيم منطلقا، فمنعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادى، الذى ليس به إنس ولا شىء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يتلفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حتى بلغ يشكرون. وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما فى السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادى تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادى رفعت طرف درعها، ثم سعت سعى الإنسان المجهد حتى إذا جاوزت الوادى، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبى صلى الله عليه وسلم : (فذلك سعى الناس بينهما). فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت صه - تريد نفسها - ثم تسمعت، فسمعت أيضا، فقالت: أسمعت إن كان عندك غوث، فإذا هى بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء فى سقائها وهو يفور بعد ما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبى صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا).
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله، يبنيه ذلك الغلام وأبوه، وأن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا فى أسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادى وما فيه ماء، فأرسلوا جربا أو جربين فإذا هم بالماء، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم ، ولكن لا حق لكم فى الماء (أى لا يكون ملكا لهم)، قالوا: نعم . قال ابن عباس: قال النبى صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك (أى وافق ذلك) أم إسماعيل وهى تحب الأنس. فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم.
إسماعيل يتزوج من جرهم:
حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغى لنا، ثم سألها عن عيشتهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر ، نحن فى ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئى عليه السلام، وقولى له يغير عتبة بيته، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألنا عنك فأخبرته، وسألنى كيف عيشنا، فأخبرته أنا فى جهد وشدة  قال: فهل أوصاك بشىء؟ قالت: نعم، أمرنى أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبى، وقد أمرنى أن أفارقك، الحقى بأهلك، فطلقها، وتزوج أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه (أى عن إسماعيل)، قالت: خرج يبتغى لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشتهم وهيئتهم، قالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم ؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك فى اللحم والماء .
قال النبى صلى الله عليه وسلم: (ولم يكن لهم يومئذ حب "أى قمح أو شعير"، ولو كان لهم دعا لهم فيه). قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه . قال: فإذا جاء زوجك فاقرئى عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلم جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد ؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألنى عنك فأخبرته، فسألنى كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير، قال: أوصاك بشىء، قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبى وأنت العتبة، أمرنى أن أمسكك، ثم لبث (أى إبراهيم) عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبرى نبلا له قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرنى بأمر، قال: فاصنع ما أمر ربك، قال: وتعيننى؟  قال: وأعينك،
قال: فإن الله أمرنى أن أبنى ها هنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتى بالحجارة وإبراهيم يبنى، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر، فوضعه له, فقام عليه، وهو يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
مبنى الكعبة:
هذا هو التاريخ الثابت المحقق لأول بناء للكعبة الشريفة وربما كان ذلك فى زمن يقرب من سنة 1892 ق.م
وهناك أقوال كثيرة أوردها الأزرقى فى كتابه تاريخ مكة، تقول بأن الأرض رجبت من تحت الكعبة، وأن الكعبة قد بنيت تحت العرش مباشرة، وأن الحجاج يطوفون بها كما يطوف الملائكة حول العرش، وأن أول من بنى الكعبة هم الملائكة قبل خلق آدم ثم بناها آدم عليه السلام، ثم اكتسحها الطوفان، فبناها نوح عليه السلام، وأن الملائكة إذا نزلوا الأرض طافوا حول الكعبة، وأن فريقا منهم يستأذن الله جل وعلا للنزول الأرض والطواف حول الكعبة، وقد قلت فى كتابى "الحج أسراره ومناسكه" وهذه الأقوال كلها لا نستطيع أن نتعرض لها بنفى أو إثبات، فهى من أحاديث الغيب، ونحن إنما نسجلها للأمانة العلمية ليكون أمام القارئ كل ما يقال بهذا الصدد.. ولنا الثابت المحقق كما نص عليه القرآن الكريم، من أن إبراهيم عليه السلام هو بانى الكعبة المكرمة بمعاونة ابنه إسماعيل.
ولقد تهدم بناء الكعبة كما بناها إبراهيم عليه السلام، أكثر من مرة بفعل السيول، ولكن أبناء إبراهيم وأحفاده من العرب المستعربة كانوا يعيدون بناءها، كما بناها إبراهيم عليه السلام وكان ارتفاعها على ما يقول الازرقى تسعة أذرع، وعرضها ما بين الركن الأسود والركن الشامى 32 ذراعا، وعرض ما بين الركن الشامى إلى الركن الغربى الذى فيه الحجر 22 ذراعا. وهى مؤلفة من حجرة واحدة. ويمكن القول أن الكعبة كما هى اليوم لا تختلف عما كانت عليه فى زمن سيدنا محمد، فيما خلا الارتفاع الذى قد زيد بعد ذلك والمادة التى تبنى منها الكعبة هى الحجارة الزرقاء الصلبة الجرانيتية، وهى الأحجار المتوافرة فى منطقة مكة.
الحجر الأسود:
وأهم معالم الكعبة هو الحجر الأسود الذى يسن تقبيله، قبل البدء فى الطواف حول الكعبة، وهو حجر صقيل بيضاوى غير منتظم لونه أسود براق كأنه أبنوس، يميل سواده نحو الاحمرار، وفيه نقط حمراء وتعاريج صفراء، وهى من أثر لحام القطع التى تكسرت منه فى عصور تالية على عصر رسول الله، أما فى وقت النبى صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزال قطعة واحدة، وطول قطره نحو ثلاثين سنتيمترا، ويحيط به فى الوقت الحاضر إطار من الفضة عرضه عشرة سنتيمترات، ولكنه أيام الرسول وقبل ذلك لم يكن محاط بهذا الإطار الفضى، وقد قلت فى كتابى الحج أسراره ومناسكه: والأقوال فى الحجر الأسود كالأقوال فى أصل الكعبة كثيرة، وكما قيل أن الكعبة قد بنيت بعد خلق الأرض، وأن الملائكة بنوها، وكانوا أول من طاف بها فكذلك الحجر الأسود، قيل أنه من أحجار الجنة وأن الملائكة قد جاءت به ووضعته فى موضعه. وقد قيل فى فوائده أنه شفاء من كل سقم، وأنه غافر من كل ذنب وأنه يمين الله فى الأرض، وأنه كان أبيض اللون، ثم اسود من آثام الناس. وهذه كلها أقوال لا نستطيع أن نتعرض لها بإثبات أو نفى، ولنا ما قاله عمر بن الخطاب رضى الله عنه إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك. وسوف نعود لذكر ذلك كله بالتفصيل فى حينه، وأثناء عرض هذه السيرة، أما الآن فحسبنا، أن نقف عند هذا القدر، من أن إبراهيم جاء بإسماعيل إلى مكة وأنهما بنيا البيت معًا لعبادة الله الواحد الأحد، وأن إسماعيل كان كأبيه صديقا نبيا:
{وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم:54-55).
وقد كان اكتشاف بئر زمزم وبناء الكعبة واستقرار إسماعيل عنها، هو الأصل الذى نشأ منه العرب المستعربه الذين اشتهروا بأنهم العرب العدنانية. والأصل فى مكة أنه بكة وقيل أن بكة معناها البيت، ثم سميت المنطقة كلها باسم البيت، وأبدلت الباء ميما على عادة العرب فى النطق أحيانا.
واقعة الفداء:
وثمة واقعة تاريخية أخرى، لا يمكن إغفالها عند الحديث عن إبراهيم وإسماعيل، لأن الإشارة قد وردت بذكرها فى القرآن الكريم من ناحية، ولأنها تتصل بمنسك الحج من ناحية أخرى، وتلك هى حادثة الفداء التى فدى فيها الله عز وجل ابن إبراهيم بذبح عظيم. وتبدأ الواقعة المذكورة، بأن إبراهيم عليه السلام رأى فى المنام كأنه يذبح ابنه ولما كانت رؤيا الأنبياء نوعا من الوحى، فقد أدرك إبراهيم عليه السلام أن ذلك أمر من الله عز وجل قد صدر إليه يذبح ابنه. فبادر إبراهيم عليه السلام بالانصياع لما تصوره أمرا صادرا من الله إليه، فعرض الأمر على ابنه، الذى انصاع بدوره إلى أمر الله عز وجل، ووافق أباه على أن يذبحه قربة لله عز وجل، ولما أن شرع إبراهيم عليه السلام فى ذبح ابنه بالفعل، جنبه الله عملية الذبح وقدم له كبشا ليذبحه فداء عن ولده.
ولهذه القصة أشار القرآن الكريم فى الآيات التالية:
 {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْى قَالَ يَا بُنَى إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ}(الصافات: 102-113).
من هو الابن الذبيح:
وقد جرى التساؤل، حول شخصية الابن الذبيح، فالقرآن الكريم قد تحدث عنه دون أن يذكر اسمه، ومن المعلوم أن إبراهيم عليه السلام كان له ابنان: إسماعيل وإسحق فأى الابنين هو الذبيح، إن الاسم الوحيد، الذى أشير إليه فى الآيات السابقة هو اسم إسحق، فهل يكون الذبيح هو إسحق، إن سياق الآيات يحتمل ذلك، كما يحتمل أن يكون الذبيح غير إسحق، فقد جاء الحديث عن إسحق بعد حرف الواو (وبشرناه بإسحق) ومن هنا وقع الخلاف بين المفسرين حول شخصية الابن الذى هم إبراهيم بذبحه، يقول الطبرى شيخ المفسرين:
اختلف السلف من علماء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم فى الذى أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم: هو إسحق بن إبراهيم وقال بعضهم هو إسماعيل بن إبراهيم وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا القولين، لو كان فيها صحيح لم نعده إلى غيره، غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التى رويت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: هو إسحق أوضح وأبين منه على صحة الأخرى.
أما الدلالة من القرآن التى قلنا أنها على كون إسحق هو الذبيح أوضح، فقوله تعالى مخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه إلى الشام مع زوجته سارة قال: {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ}، وذلك قبل أن يعرف هاجر وقبل أن تصير له أم إسماعيل، ثم أتبع ذلك ربنا عز وجل الخبر عن إجابته ودعائه وتبشيره إياه بغلام حليم ثم عن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعى، ولا يعلم فى كتاب الله عز وجل تبشير بولد ذكر إلا بإسحق وذلك قوله: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}.
وقوله: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} ثم ذلك كذلك فى كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام، فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة، فالواجب أن يكون فى قوله {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} نظير ما فى سائر سور القرآن من تفسير إياه به من زوجته سارة.
رأى مخالف لابن كثير:
وإذا كان ابن جرير الطبرى يرى من سياق القرآن ما يؤدى إلى أن الذبيح هو لإسحق، فإن ابن كثير يرى على العكس منه أن سياق سورة الصافات يؤدى إلى أن الذبيح هو إسماعيل، إذ بعد أن ذكرت قصة الفداء وانتهت جاءت الآيات تقول {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} فدل ذلك على أن البشارة بإسحق تالية على حادث الفداء
رأى الشيخ عبد الوهاب النجار:
وقد جزم الشيخ عبد الوهاب النجار فى كتابه القيم "قصص الأنبياء" أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام وليس إسحق، فيقول: أما هذه القصة فى التوراة فبطلها عند اليهود إسحق، وفى اعتقادى أن لفظ إسحق حشر حشرا فى غضون القصة وذلك حرصا منهم (أى اليهود) على أن يكون الذبيح أبوهم هو الذبيح الذى جاء بنفسه فى طاعة ربه وهو صغير. ودليلى على أن الذبيح هو إسماعيل من التوراة نفسها فقد وصف الذبيح فى التوراة بأنه ابن إبراهيم الوحيد أى الذى ليس له سواه إذ سخاوة نفس إبراهيم بولده الوحيد يذبحه امتثالا لأمر ربه له فى منام أدل على نهاية الطاعة والامتثال لأمر الله وهذا هو الإسلام بعينه، إذ الإسلام هو الامتثال والطاعة وهو دين الله فى الأولين والآخرين، وإذ رجعنا إلى إسحق لم نجده وحيدا لإبراهيم فى يوم من الأيام، لأن إسحق ولد ولإسماعيل نحو أربع عشرة سنة كما هو صريح التوراة، وبقى إسماعيل إلى أن مات إبراهيم وحضر إسماعيل وفاته ودفنه وأيضا فإن ذبح إسحق يناقض الوعد الذى وعد به إبراهيم، أن إسحق سيكون له نسل. هذا إلى أن مسألة الذبح وقعت فى مكة لأن إسماعيل ذهب به أبوه إليها رضيعا كما ورد فى صحيح البخارى.
الدكتور هيكل:
ولم يقطع الدكتور محمد حسين هيكل فى كتاب "حياة محمد" برأى معتذرا بأن "ليس ها هنا مقام تمحيص هذا الخلاف" وقد أشار إلى رأى الشيخ عبد الوهاب النجار وختم بحثه فى هذه القضية بقوله: ولم يرد فى القرآن ذكر لاسم الذبيح مما جعل المؤرخين المسلمين يختلفون فيه.
ونرى قبل أن نبدى رأينا فى الموضوع أن نثبت ما جاء فى كتاب العهد القديم خاصا بهذه القضية، كى تكون عناصر البحث متاحة أمام أى قارىء.
العهد القديم والذبيح:
جاء فى الفصل الثانى والعشرين من سفر التكوين ما يلى:
"وكان بعد هذه الأمور أن امتحن الله إبراهيم. فقال له: يا إبراهيم: قال: لبيك. قال خذ ابنك وحيدك الذى تحبه اسحق، وأمض إلى أرض مورية واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذى أريك. فبكر إبراهيم من الغداة وأكف حماره واخذ معه غلامين واسحق ابنه وشقق حطبا لمحرقة، وقام ومضى إلى الموضع الذى أشار  الله إليه • وفى اليوم الثالث رفع إبراهيم طرفه، فأبصر الموضع من بعيد • فقال إبراهيم لغلاميه امكثا أنتما هنا مع الحمار، وأنا والغلام نمضى إلى هناك فنسجد ونرجع إليكما. واخذ إبراهيم حطب المحرقة، وجعله على إسحق ابنه، وأخذ بيده النار والسكين، وذهبا كلاهما معا • فكلم اسحق إبراهيم أباه وقال يا أبت. قال لبيك يا بنى. قال هذه النار والحطب، فأين الحمل للمحرقة • فقال إبراهيم الله يرى له الحمل للمحرقة يا بنى. ومضيا كلاهما معا. فلما أفضيا إلى الموضع الذى أشار له الله إليه، بنى إبراهيم هناك المذبح ونضد الحطب وأوثق اسحق ابنه وألقاه على المذبح فوق الحطب • ومد إبراهيم يده فأخذ السكين ليذبح ابنه • فناداه ملاك الرب من السماء قائلا: إبراهيم.. إبراهيم. قال ها أنذا. قال لا تمدد يدك إلى الغلام، ولا تفعل به شيئا، فإنى الآن عرفت انك متق لله ، فلم تدخر ابنك وحيدك عنى • فرفع إبراهيم طرفه ونظر، فإذا بكبش وراءه، معتقل بقرنية فى الجداد. فعمد إبراهيم إلى الكبش وأخذه واصعده محرقة بدل ابنه • وسمى إبراهيم ذلك الموضع "الرب يرى" ولذلك يقال اليوم جبل الرب يرى.
رأينا فى الموضوع:
تحدثت عن هذه القضية فى كتابى "الحج أسراره ومناسكه" على أساس أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وعللت بعض مناسك الحج على هذا الأساس، وإليك ما قلته بهذا الصدد:
"كان العرب منذ عرفوا منسك الحج يرجمون هذه الشواخص الحجرية فى منى مطلقين عليها اسم الشيطان الكبير والشيطان الأوسط والشيطان الصغير، مشيرين بذلك إلى ما قيل فى قصة الفداء عندما حلم إبراهيم الخليل عليه السلام أنه يذبح ابنه إسماعيل، فأدرك أن ذلك أمر من الله سبحانه وتعالى بذبح ابنه، فعرض ذلك الأمر على إسماعيل، فأجابه هذه الإجابة الخالدة التى سجلها القرآن {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فاصطحب ابنه وسار به فى وادى منى ملتمسا مكانا ليذبحه فيه، فعرض له الشيطان موسوسا، كيف يذبح ابنه وفلذة كبده، وحرضه على العصيان على هذا الأمر، فما كان من إبراهيم عليه السلام، إلا أن أخذ حفنة من الحصى وحصب بها الشيطان ففر مذعورا، فهذا هو محل الجمرة الأولى.
ولكن الشيطان لم يلبث أن جدد غارته، لا على إبراهيم عليه السلام، بل على هاجر أم إسماعيل، فراح يوسوس لها، كيف تسكت عن إبراهيم وقد أخذ ولدها الوحيد ليذبحه، وحرضها على أن تحول دون ذلك، ولكن هاجر المؤمنة أخذت بدورها حفنة من الحصى وحصبت بها الشيطان ففر مذعورا، وهذه هى الجمرة الوسطى. ولم يبقى إلا إسماعيل نفسه فوسوس له الشيطان أن يتمرد على أبيه وينجو من المصير الذى ينتظره، ولكن إسماعيل كأبويه من قبل حصب الشيطان ففر مخذولا، وهذه هى الجمرة الصغرى. هذه هى قصة الشخوص الحجرية الثلاثة يراها العرب رمزا لهذا الحادث التاريخى الخالد، فهم يخلدونه فى كل عام خلال العصور والأجيال بأن يرجموا الشيطان ممثلا فى هذه الأحجار الثلاثة. فالذين يتصورون أن هذه الأحجار هى الشيطان نفسه هم جد مخطئون، وهو تفكير وثنى، أما الذين يعتبرون رجم هذه الأحجار بمثابة تخليد لهذا الحادث، فهم يقومون بعمل حميد إذ يذكرون أنفسهم، ويذكرون البشر بقصة من أروع قصص الفداء والإيمان العميق والتسليم بأوامره، حتى لو كانت التضحية بالنفس وبما هو أعز من النفس وهو ولد الإنسان.
ذلك ما قلته فى كتاب "الحج أسراره ومناسكه" منقولا عما تضمنته المصادر القديمة تفسيرا لعملية رجم الحجرات. ويفهم منه مدى ارتباط قصة أن يكون الذبيح هو إسماعيل عليه السلم، وأن الحادثة قد وقعت فى منى فى منتصف الطريق بين مكة وعرفات، وأن ذلك تفسير أضحية العيد التى يتقرب بها المسلمون إلى الله عز وجل.
فهذا الواقع المتبع، والذى يفسر لنا مناسك الحج ويربطها بإسماعيل عليه السلام، يجب أن يقضى على هذا الخلاف من وجهة النظر الإسلامية على الأقل، ويتم الاتفاق على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام.
إسماعيل وأولاده:
كيفما كان الأمر، وكان إسماعيل هو الذبيح أو كان الذبيح هو إسحق فالأمر المحقق أن الذى سكن الحجاز هو إسماعيل وليس إسحق وأن إسماعيل قد أنجب عددا كبيرا من الأبناء هم أصول العرب المستعربة أو العرب العدنانية.
يقول كتاب العهد القديم:
"وهذه مواليد إسماعيل بن إبراهيم الذى ولدته هاجر المصرية • هذه أسماء بنى إسماعيل بحسب أسمائهم ومواليدهم: بنايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبئيل ومبسام • ومشماع ودومة ومساه وحدار وتيما ويطور ونافيش وقدمه. هؤلاء بنو إسماعيل وهذه أسماؤهم بحسب أحويتهم وحظائرهم اثنا عشر زعيمًا لقبائلهم. وهذه سنى حياة إسماعيل مائة سنة وسبع وثلاثون سنة ثم توفى وانضم إلى قومه، وكانت مساكنهم من حويلة إلى شور التى تجاه مصر وأنت آت نحو أشور قبالة جميع إخوته نزل.
ويتفق مؤرخو العرب مع ها الذى جاء فى العهد القديم فيقول ابن هشام:
إن إسماعيل قد أنجب من زوجته الثانية رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمية اثنى عشر ابنا وكان أكبرهم نابتا ثم قيدر أو قيدار وأذيل ومبشا ومسمعا وماشى ودما وأذر وطيما ويطور ونبش وقيذما.
نابت وقيدار أبو العرب:
والرأى عند مؤرخى العرب أن نابت وقيدار من بين أبنا إسماعيل هما أصل العرب المستعربة، ويضرب المؤرخون فى ذكر السلسة ما بين نابت وبين عدنان فيطيل البعض هذه السلسلة فيجعلها ثلاثين بطنا. ومنهم من يضيقها ويقصرها على سبع حلقات فقط، فيقولون أن نابت أنجب يشجب، ويشجب أنجب يعرب، ويعرب أنجب تيرح وتيرح أنجب ناحور، وناحور انجب مقوم، ومقوم أنجب أود وأود أنجب عدنان يقول ابن اسحق ومن عدنان تفرقت القبائل من بنى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، فولد عدنان رجلين: معد بن عدنان وعك بن عدنان، ومن معد بن عدنان تفرع العرب المستعربة على الوجه الذى سلف، ومن عك تفرعت العرب القحطانية فى رأى ابن اسحق.
عدنان أو جد معترف به:
وكون العرب المستعربة هى من نسل إسماعيل عليه السلام، مسألة مقررة بنص القرآن الكريم {رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}.
ولكن الأجيال بين إسماعيل حتى عدنان يكتنفها الغموض وقد أنكر رسول الله على ما يذكرون تفاصيلها.
روى عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز فى نسبه معد بن عدنان بن أود ثم يمسك ويقول كذب الناسبون. قال الله عز وجل {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}(الفرقان: 38}.
وروى عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل - وروى عن ابن عباس قوله: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنما ننتسب إلى عدنان.
ويعجبنا قول الإمام مالك وجماعة من العلماء، إذا كانوا يكرهون أن يرفع الرجل نسبه إلى آدم عليه السلام، على أساس أن ذلك كله ضربا من الظنون والتخرصات.
جرهم تسيطر على مكة:

على أن الذى سيطر على مكة لم يكونوا هم أبناء إسماعيل المباشرين، فقد نشأوا كما رأينا ضعافا فى بادئ الأمر، وقد حلت قبيلة جرهم على المكان منذ طفولة إسماعيل كما رأينا، فلما كبر إسماعيل زوجوه أحد بناتهم، فكانت السيادة والسلطان فى مكة لجرهم، وقد حاولت قبيلة ثانية وهى قبيلة العماليق أن تنازعهم هذا الأمر فغلبت جرهم العماليق، وأصبحوا أصحاب الحول والطول فى مكة وما يحيط بها، وسرعان ما انتزعوا ولاية البيت نفسه من أبناء إسماعيل وأصبحوا هم ولاة البيت، ولكنهم لم يرعوا حرمة البيت فطغوا وبغوا وأحدثوا الأحداث، فقام واحد منهم وهو مضاض بن عمرو بن الحارث، بتحذيرهم وإنذارهم من مغبة ما يعملون، فلم يستمعوا إليه. وقدر مضاض بن عمرو أنهم لن يلبثوا أن ينتهبوا أموال الكعبة، وكانت قد أهديت لها بعض الذخائر فعمل على إنقاذ هذه الذخائر، وكانت تتألف من غزالين مصنوعين من الذهب وبعض السيوف، فدفنها فى موضع بئر زمزم، وكان سوء الاستعمال والإهمال قد طمرها، فردمهما مضاض بعد أخفى بها كنوز الكعبة، وعفى على آثارها فظلت مطمورة إلى أن اهتدى إليها عبد المطلب جد النبى صلى الله عليه وسلم كما سنرى. وقد انتهى أمر جرهم بما تنبأ به مضاض بن عمرو لها، إذ غلبتها خزاعة على مكة وأخرجتها من مكة.

غلبة خزاعة على مكة:

وخزاعة هى إحدى قبائل اليمن من أولاد عمرو بن عامر وقد ارتحلت من اليمن بعد انهيار سد مأرب، قاصدة نحو الشمال مخترقة جزيرة العرب كما هى العادة، حتى إذا وصل المهاجرون فى سيرهم إلى موقع مكة تخلفت إحدى فروع هذه القبيلة ورغب فى البقاء عند مكة فوصفوا بأنهم انخزعوا أى انحازوا ومالوا عن بقية إخوانهم فسموا خزاعة وكانوا من بنى ربيعة. وقد تصدت لهم جرهم وحاولت أن تحول بينهم وبين سكنى مكة، ولكن خزاعة انتصرت وأبادت جرهم، فيما عدا مضاض بين جرهم إذا اعتزل الحرب، وكذلك بنو إسماعيل الذين لم يناصروا جرهم إذ كانت باغية عليهم.

واستولت خزاعة بعد انتصارهم على جرهم على حجابة البيت وولاية أمر مكة وكان أ بناء إسماعيل أضعف من أن يقاوموهم فاستتب لهم الأمر.

عمرو بن لحى:

أصبح أمر مكة والكعبة بأيدى خزاعة. وحدث أن تزوج لحى كبير خزاعة بإمرأة جرهمية فولدت له عمرو بن لحى، وهو أول شخصية تاريخية تصادفنا فى تاريخ مكة باعتباره أول من أدخل الأصنام إليها، وأرسى لها تقاليدها الجاهلية التى ظلت شريعة متبعة إلى أن جاء الإسلام.

يروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: يا أكثم أرأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندق يجر قصبة فى النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، فقال أكثم: أيضرنى شبهه يا رسول الله قال لا: إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامى.

وتبدأ قصة عمرو بن لحى وسيادته على مكة، بأنه على ما تقول بعض الروايات، استعان ببنى إسماعيل وقاتل من بقى من جرهم فأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من مكة وما حولها، فآلت إليه حجابة البيت ثم إنه مرض مرضا شديدا، فقيل له أن بالبلقاء من الشام حجة إن آتيتها برأت، فأتاها فاستحم بها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا نستسقى بها المطر ونستنصر على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة، فكان ذلك أول ما عرفت مكة الأصنام وكان الصنم الذى جاء به عمرو بن لحى أول ما جاء هو هبل (بعل) وأمر أهل مكة بعبادته وتعظيمه.

ولم تلبث قبائل العرب أن اتخذت كل منها لنفسها صنما تعبده ثم تضع إلى جدار الكعبة نموذجا للصنم الذى تعبده حتى يكون حجها إليه وطوافها حوله، ولم تلبث أن تحولت الكعبة إلى متحف أو معرض لشتى صنوف الآلهة، حتى لقد كان بها على عهد النبى صلى الله عليه وسلم 360 وثنا وصنما.

رأى آخر فى كيفية نشوء عبادة الأصنام:

يقول ابن اسحق (وهو عين ما جاء فى كتاب الأصنام للكلبى) ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة فى إسماعيل، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح فى البلاد، إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيمًا للحرم، فحيثما نزلوا وصنعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى انتهى ذلك بهم إلى عبادة ما يستحسنون من الحجارة، ثم خلف من بعدهم خلف، نسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره. فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات وإن ظل فيهم بقايا من عهد إبراهيم فكانوا يتمسكون بتعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة إليه، والوقوف بعرفة والمزدلفة ونحر البدن، والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فى التلبية ما ليس منها. فكانت قريش وكنانة إذا أهلو للحج أو العمرة قالوا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. فيوحدون بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده، ولهذا المزج بين التوحيد والإشراك أشار القرآن الكريم فى قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}.

وسنرى أن الإسلام سوف يطهر منسك الحج مما خالطه من مظاهر الشرك فأصبحت التلبية الإسلامية هى "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".

أصنام العرب:

وإذا كان عمرو بن لحى هو أول من أدخل عبادة الأصنام مبدئيا بهبل فقد اشتهرت بعد ذلك أصنام أخرى عبدتها مختلف قبائل العرب فى أنحاء الجزيرة، وقد استقصى الكلبى هذه الأصنام فى كتابه ننقلها عنه معيدين ترتيبها بحسب أهميتها.

مناة: لعل مناة هى من أقدم أصنام الهرب على ما يقول الكلبى. إذ نجد فى أسماء العرب منذ القديم اسم "عبد مناة" "وزيد مناة" وكان منصوبا على ساحل البحر من "ناحية المشلل بقديد" بين المدينة ومكة وكانت العرب كلها تعظمه وتذبح حوله. وكانت الأوس والخزرج، فيقول شاعرهم:

إنى حلفت يمين صدق برة: بمناة عند محل آل الخزرج.

وقد جاء ذكر مناة فى القرآن الكريم {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} وكانت لهذيل وخزاعة خاصة ولكن قريشا وجميع العرب تعظم مناة.

اللات: وكانت اللات بالطائف وهى أحدث عهدًا من مناة- وكانت فى بادئ الأمر صخرة مربعة. وكان أحد اليهود يلت عندها السويق.

وكان حجابها وسدنتها من ثقيف وقد بنوا عليها بناء. يقول الجاحظ فى كتابه الحيوان:

وكان لثقيف بيت له سدنة يضاهئون بذلك قريشا:

وكانت قريش وجميع العرب يعظمونها. وكانت العرب تسمى، "زيد اللت" و"تيم اللات".

العزى: ثم اتخذ العرب العزى، وهى أحدث من اللات ومناة، فقد سمت بهما العرب قبلها عبد العزى بن كعب من أقدم ما سمعت به العرب. والعزى شجرة كانت بواد من نخلة الشامية عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، وقد بنى حولها بيت، وكانوا يسمعون فيه الصوت.

وكانت العزى أعظم الأصنام عند قريش وكانوا يزورونها ويهدون لها، ويتقربون عنها بالذبح.

وقد روى عن زيد بن عمرو بن نفيل وهو ممن تحنفوا قبل الإسلام، أى اتبعوا دين إبراهيم وتركوا عبادة الأصنام.
تركت اللات والعزى جميعا                              فلا العزى أدين ولا ابنتيها               ولا هبلا أزور وكان ربا
كذلك يفعل الجلد الصبور
ولا صنمى بنى غنم أزور
لنا فى الدهر إذ حلمى صغير


الأصنام والأوثان والأنصاب:

وقد كان العرب يطلقون على التمثال إذا كان مصنوعا من خشب أو ذهب أو فضة وكان على صورة إنسان اسم الصنم، أما إذا كان مصنوعا من الحجارة فهو الوثن.

ومن لم يقدر من العرب على اتخاذ صنم أو وثن، نصب حجرا أمام الكعبة أو فى المكان الذى يستحسنه، ثم طاف به كطوافه بالبيت وكانت هذه الأحجار تسمى الأنصاب. وسيرد علينا فى السيرة إن شاء الله، كيف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلف السرايا من أصحابه لتحطيم هذه الأصنام والأوثان المنتشرة فى جزيرة العرب، بعد أن طهر بنفسه الكعبة مما تغص به من أصنام.

البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى:

ذكرنا من قبل أن عمرو بن لحى هو أول من أدخل عبادة الأصنام إلى مكة، وكان أول من بحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى وقد أشار القرآن الكريم فى قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (المائدة: 103).

والبحيرة: هى الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ويتصدق به وتهمل لآلهتهم.

والسائبة: هى التى ينذر لله أن يسيبها إذا برىء من مرضه أو إذا أصاب أمرا يطلبه فإذا تحقق ذالك الأمر ساب ناقة من إبله أو جملا لبعض آلهتهم فتروح ترعى دون أن ينتفع بها.

والوصيلة: هى التى تلد أمها اثنين فى بطن فيجعل صاحبها الإناث للآلهة دون الذكور التى يبقيها لنفسه - فإذا ولدت الأم الأنثى وذكرا فى بطن واحد قالوا عن الأنثى أنها وصلت أخاها، فيسيب أخوها ولا يعود ينتفع بها.

والحامى على ما يقول ابن إسحق: الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات بينهن ذكر حمى ظهره، فلم يركب ظهره ولم يجز وبره، وخلى فى إبله يضرب فيها ولا ينتفع منه بغير ذلك.

وقد روى ابن إسحق رواية أخرى عن صفة البحيرة والسائبة والوصيلة، ولكن ابن هشام لم يوافقه على ما ذهب إليه، فاكتفيا بنقل ما سبق، فليس من مهمتنا أن نحقق المقصود بالضبط بالوسيلة والسائبة والبحيرة والحامى، وحسبنا الإشارة بعامة إلى مضمونها، ما دام القرآن قد أشار لها منددًا بها فى مجموعها:

{وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَظيم
نسب إبراهيم:

ذكر المؤرخون نسبه واصلاً إلى سام بن نوح عليه السلام، ونوح - في سلسلة نسب إبراهيم- هو الأب الثاني عشر. وقد أسقط بعض النسابين من آبائه في سلسلة النسب (قينان)، بسبب أنه كان ساحراً.

فهو على ما يذكرون: إبراهيم "أبرام" (عليه السلام) بن تارح "وهو آزر كما ورد في القرآن الكريم" بن ناحور بن ساروغ "سروج" بن رعو بن فالغ "فالج" بن عابر بن شالح بن قينان - الذي يسقطونه من النسب لأنه كان ساحراً - بن أرفكشاذ "أرفخشذ" بن سام بن نوح (عليه السلام). والله أعلم
 
-2 لمحات من قصة إبراهيم عليه السلام في القرآن:

وقد بسط القرآن الكريم مشاهد بارزة مهمة من حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام في عدة سور، وأبرز ما فيها النقاط التالية:

-1 بدأ حياته عليه السلام باحتقار الأصنام، وبيان سخف عبادتها، ثم ثورته عليها وتحطيمها، غير مكترث بما ينجم عن عمله هذا، وتنبيه عابديها على خطئهم البالغ في عبادتها وتعظيمها، ونشأته على ما بقي محفوظاً من ملّة نوح عليه السلام.

-2 تأمّلاته في ملكوت السماوات والأرض، وبحثه الذي دلّه على جلال الرب وكمال صفاته وتنزه ذاته عن كل صفة من صفات الحدوث وعوارض النقص.

-3 توجُّهه إلى الله فاطر السماوات والأرض، وتبرؤه مما يشرك المشركون.

-4 بلوغه منزلة النبوة والرسالة باصطفاء الله له، واضطلاعه بمهامها، وإنزال الصحف عليه المسماة "بصحف إبراهيم".

-5 محاجّته لقومه بالبراهين والأدلة المنطقية المقنعة والملزمة، وثباته في محاجّةِ من آتاه الله الملك في البلاد، وارتقاؤه إلى أعلى مراتب الإِيمان بأن الله هو الذي يميت ويحيي، ويطعم ويسقي، ويمرض ويشفي، وبيده كل شيء.

-6 تعرضه للعذاب من قبل قومه، وذلك بإيقاد النار له في بنيان أعدوه لهذا الغاية، وإلقاؤه فيها، وصبره وثباته وثقته بالله، ثم سلامته من حرّها وضُرّها، إذ قال الله لها: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}

-7 عزمه على الهجرة من أرض الشرك، وإيمان لوط به ومهاجرته معه.

-8 إثبات أن الله أنزل عليه صحفاً تسمى "صحف إبراهيم".

-9 زيارته مكة، وإسكانه في واديها بعض ذريته وهو "إسماعيل". ورفع قواعد بيت الله الحرام فيها بعد سنوات من الإسكان مع ولده إسماعيل عليهما السلام. وعهدُ اللهِ له ولولده إسماعيل أن يطهرا البيت للطائفين والعاكفين والركّع السُّجود، وأمر الله له أن يؤذِّن في الناس بالحج. ومشاهد رائعة من مواقف التجاءاته إلى الله، ومناجاته له بالعبادة والدعاء.

-10 طلبه من الله أن يريه كيف يحيي الموتى، وذلك ليطمئن قلبه، ويزداد يقينه بالحياة بعد الموت، إذا رأى بالمشاهدة الحسية كيفية حدوث ذلك.

-11 أن الله وهبه - على كبر سنه - إسماعيل وإسحاق، وخرق العادة له بإكرامه بإسحاق من امرأته العجوز العاقر "سارة".

-12 مجادلته الملائكة المرسلين لإِهلاك قوم لوط، لعل الله أن يدرأ عنهم العذاب الماحق، وذلك طمعاً بأن يهتدوا ويستقيموا، إلاَّ أن جواب الرب ناداه: {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} :

-13 إكرام الله له بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب من بعده، وقد كان واقع الأمر كما وعده الله، فجميع الأنبياء والرسل من بعده كانوا من ذريته. أما لوط عليه السلام فإنه كان معاصراً له، على أن إبراهيم كان عمه فيمكن دخوله في عموم الذرية.